السبت، ماي 01، 2021

شعب الآخرة: دين الحياة ، دين الممات. بقلم الأستاذ علي مصطفى

 

"ذهبت أولاً إلى مدرسة حفظ القرآن ، ما كنت أحب الدين ، و زاد كرهي له في الحقيقة ، خاصة عندما ضربنا بالمسطرة على باطن أقدامنا لجعلنا نتعلم القرآن عن ظهر قلب.

 في المدرسة الفرنسية ، كانت المعلمة مثل الأم الثانية بالنسبة لنا. كانت  رائعة. تعرف كيف تثير اهتمامنا. وجعلتنا نرغب في الذهاب إلى المدرسة "

                                                           كاتب ياسين

 

إن الموريتاني مُصَوب روحانيا نحو الموت. والصورة التي غرست  فيه من دينه صورة موت. ليست صورة حياة.  فأصبحت خطته الوجودية الكاملة تكمن في ... الهروب من جهنم.

 

 يقوم تعليم الدين كليًا على نوع من "البيداغوجيا" المبنية على الحساب و العقاب.  ويشعر الطفل ، منذ صغره بآلام الجحيم في جلده تحت  سياط مدرس القرآن.

 ثم يخضعه ذلك المدرس العنيف "لتربية"  الرعب من  الموت. و يدرب عقله اللين على هذا الخوف الرهيب من عقاب العالم السفلي ، حيث سيشوى فيه ، برفقة الشيطان و بألف طريقة..

 

 والأبعد من ذلك ، ولجعله يعاني أكثر دون تأخير ، فإن "معلم" الألواح القرآنية يلوح بالعقوبات التي سيتعرض لها عندما  يدفن.  فيصبح القبر بنفسه "غرفة انتظار" المعاناة قبل يوم القيامة . و فيه سيخضع لجميع أشكال التعذيب لليتذوق مسبقا لما ينتظره...

 

 وهكذا يتشكل العقل في لهيب الجحيم وتتعرض نفسية الموريتاني لصدمة عميقة لدرجة أنه لن يفكر طيلة حياته إلا في خلاصه.

 لذلك لن  يرى في الدين  إلا وسيلة لدخول الجنة و للهروب من الجحيم وعذاب القبر.

 ذلك هو مشروع حياته بأكملها.

 فتصبح الحياة بالنسبة له ثانوية ولا تستحق الإسهاب فيها لأنها عابرة ولا تستحق التضحية من أجلها. بل يجب التفكير في الموت لا الحياة.

 مشبعًا بدين الموت وليس بدين الحياة.

 

شعب قدري إتكالي

 

وهذا ما يفسر روحه الحتمية ، وطريقة حياته المستقيلة ، وسلوكه الخاضع قبل كل شيء للقدر ، مما يعني أنه لا يمكن أن يصبح كائنًا "اجتماعيًا" ، بالمعنى الحديث للكلمة.

 

وهذه القدرية تجعله يرجع كل بؤسه والظلم الذي يعانيه إلى الله.  و لا يطلب العدل  إلا  لإله فقط .

 و قد إقتنع بأنه كلما أخفى آلامه وأوكلها إلى الله ، سيكتب له أجر أكبر.

 و لذا من الأفضل أن يكون ضحية للألم بدلاً من رفعها بطلب حقه في الدنيا.  مقتنعا بان  الذين ظلموه سيذهبون إلى الجحيم وهو المظلوم ... إلى الجنة.

 

عقلية مريحة للدكتاتورية.

 

 كل الديكتاتوريين الذين تربعوا على رأس الدولة الموريتانية يستغلون بشكل إجرامي للغاية العقلية القدرية للمواطن الموريتاني . الأمر الذي يجعل أن  تركيبته العقلية، المشوهة بالقدرية الدينية ، تجعل منه كائنًا  يعيد كل شيء إلى الله ، ولا يهتم كثيرًا بالدفاع عن حقه أو أخذه بيده. فلذا لا يؤمن بالمؤسسات ولا بالدولة ، ونقيضه الوحيد هو الله وحده.  فيعمل لآخرته متجاهل حقوقه في الدنيا. "محبته"  للآخرة و زهده في الدنيا جعلا منه فريسة للحكام الظالمين مستقلين تلك العقلية القدرية.

 

و لذا فإن رؤية المجتمع ، كما رسخت فيه ، تتعارض مع رؤية "العقد الاجتماعي". حيث يلتزم جميع المواطنين بموجب ميثاق للعمل سويًا من أجل الصالح العام و الذي يضع المواطن أمام مسؤولياته.  فينال عقوبته  أو مكافأته  من خلال  تصرفه في مجتمعه وليس من أي كائن آخر .

 

  فيجعله ذلك العقدا كائنًا اجتماعيًا ، تكون الحياة بالنسبة له أولاً وقبل كل شيء سعادة العيش الجيد والازدهار و مساهرة الأخرين لصالحهم و فائدة المجتمع .  و هي فلسفة حياة ، بدلاً من عالم "أحياء-موتي" ينتظرون زوالها لأنهم سيجدون الراحة الأبدية في الآخرة.

 

الأسلام يوصي برفاهة الحياة 

 

 و قد  نص الإسلام على مثل هذا الميثاق ليلقى الإنسان سعادته في الدنيا و في الآخرة.  و يُظهر له كل الخيرات التي وضعها  الله على الأرض ويدعوه إلى العيش في سعادة ومتعة.

 

قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (سورة القصص الآية 77). "

 

 " قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ". (سورة الأعراف الآية 32).

 

"وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ  وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ  وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ  وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ". (سورة النحل: 5-6).

 

  وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مِنْ سعادَةِ ابنِ آدمَ ثلاثَةٌ ومِنْ شِقْوَةِ ابنِ آدَمَ ثلاثةٌ مِنْ سعادَةِ ابنِ آدَمَ المرأةُ الصالحةُ والمسْكَنُ الصالحُ والمركبُ الصالحُ ومن شِقْوَةِ ابنِ آدَمَ المرأةُ السوءُ والمسكنُ السوءُ والمركبُ السوءُ ".

و  تحث الآيات والأحاديث  المسلم على أن يعيش حياة هادئة من الفرح والسرور. حياة من السعادة ينقل من خلالها صورة ظاهرية عن النعمة للكائن الأسمى الذي قدم له كل شيء ليكون سعيدًا.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً .قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ.

 إن"الله جميل يحب الجمال" ، موضحًا هذا الحديث النبوي الذي رواه مسلم ، يقول ابن قيم الجوزية: "يشمل هذا الحديث جمال الملابس ، موضوع الحديث المذكور ، ولكنه يشمل أيضًا ، بالنظر إلى النطاق العام للحديث ، جمال كل شيء. ". فالجمال وحسن الملبس بالنسبة للإنسان طريقة في شكر الله على نعمه".

 

عن أبي الأحواس الجُشامي أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رآه في ثياب ممزقة قال له: هل لك مال؟ فأجاب: نعم. سأله النبي: أي خير؟ فأجابه: كل ما أعطاني الله إياه من جمال وغنم….

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فلتظهر عليك آثار نعمة الله وفضله." (عن أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي).

 

كل شيء في الدين يتجه نحو جمال الوجود وعظمة الروح. وقد كرست آيات كاملة مكان الجميل والسامي والرائع في حياة المؤمن.

 ومع ذلك ، فإن هذا الجانب من الإسلام كدين الحياة تم تجاهله للتأكيد على مظاهره  الوعيدية والعقوبية والمماتية.

 

إن  تلك "البيداغوجيا" في تعليم الدين ترسانة من الإجراءات المرعبة الموجهة جميعها نحو المعاناة والعقاب ، تشير إلى اللاوعي لدى الموريتاني ، وتملي عليه سلوك الكائن الذي يعيش ... في لآخرة.

 

 فهؤلاء مدرسي العقيدة ربطوا عقله منذ سن مبكرة من خلال عنفهم "التربوي".

أدخلوا الخوف والرهبة والقدرية فيه. قضوا بالسياط على قدرته على التفكير فيما يتعلمه وما يعلّموه له.

 لقد قطعوا عرق الحياة وأرسخوا ضعف العقل فيه. و بالرغم  من نهي الله وفي رعبته إتجاه ما قد ينتظره في الآخرة ، فإنه يتخذهم ، كأولياء من دون الله . حتى أنه يشرب بصاقهم لجذب بركة  لا يمنحها لعباده إلا الله.

 

دين الحياة

يجب إلإصلاح الجدري لتدريس الدين في بلدنا. و ذلك بتكوين أولئك الذين يقومون بتدريسه و مراجعة طرق التدريس... وذلك ابتداءا من السنوات الأولى للتعليم الديني. و ذلك لوضع حد  للعنف  التربوي الذي يتسم به هذا التعليم ، خاصة في المدارس القرآنية التقليدية.

 

يجب أن يتم تدريس الدين باستخدام طرق التدريس الحديثة في المدارس و التأكد من أن الأساليب المعتمدة لهذا التعليم تجعله معرفة للحياة وليس معرفة للموت.

 

ليصبح الطفل ، المتعلم ، مدرك بأن دينه دين حب و جمال يرسخ فيه القيم الإنسانية العظمى. هذه القيم التي هي أساس الإنسان والتي يرويها الإسلام بكل أبعادها الروحية والتاريخية.

يجب أن يشعر الطفل في دينه بالإنسان ، الآخر ، الذي يدين تجاهه بالمحبة والتآزر. و أن السعادة التي يجلبها للآخرين هي الطرق الحقيقية لخلاصه. في الدنيا و في الآخرة.

 

ألم يقل نبينا  محمد صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"  (رواه البخاري ومسلم).

 

يتفق الفقهاء المسلمون على أن هذا الحديث هو أحد القواعد الأساسية للإسلام (أبو داود السجستاني ، الفشني ، الجرداني ...).

 

 وليذهب هذا الطفل ، المراهق ، ثم الراشد إلى الصلاة ، ليس بحثًا عن الجنة ، بل في عبادة الله الذي يسجد له دون خوف و لا عتاب على أفعاله التي قام بها في هذه الحياة لأنه زرع   فيها  المحبة والجمال والأخوة من خلال هذه "الرحمة" التي أنزلت الدموع من عيني الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن يجعل الله برحمته، يرحمه.


عندئذ يكون من الضروري أن ينشأ هذا الطفل في دين الجمال والمعرفة والرحمة من خلال تعليم الرسالة المقدسة التي تثير الدهشة والعظمة. بعيدًا عن الإكراه. في روحانية الحياة التي تزين الوجود.

 

وإذا ذكرت أي نهاية للحياة ، فلن تكون سوى بداية لنهاية رائعة : استمرارية تكمل و ترفع ما كان جميل ومحبوب على الأرض.

 

وجوبية توخي طريقة تدريس مغايرة لدين النور .

 

 طريقة يُدرس  بها دين الحياة ، بدون عنف. دين لرجال ونساء يعملون من أجل حياة راقية و عبادة  خاشعة. و من خلال أفعالهم في الدنيا ينالون النعيم في الآخرة.

 

ومن دين الحياة  سوف يستمدون الأمل والتسامح والثروة المادية والبشرية. دين يتناسب مع آمالهم. دين إلهي بشري وإنساني.

 

مسلمون اعتنقوا دين الحياة ولم  يخشون الموت. موت لن تكون إلا تتويجًا لحياة عاشوها في نعيم و دين السعادة. في الدنيا و… في الآخرة.

 

 إن دين الحياة يزهر الشعوب ، ودين الممات يطفئها.  لأن قوم يعيشون الآخرة في الدنيا لن ينالوا لا من هذه و لا من تلك.

 

أ. علي مصطفى

0 التعليقات: